بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
تقبل الله منا ومنكم، وأعاده علينا وعليكم بالأمن والأمان والاستقامة والثبات...
تمر الأيام تلو الأيام مع تقارب الزمان، مليئة بالمنغِّصات والأكدار والأحزان، فلم نستشعر أو نميّز بين حلوها ومُرها.. أفراحها وأتراحها، لبعد الكثير منا ومفارقته الأحبة والخلان، وتباعد الأماكن والأوطان، إلا أننا محكومون بقدر الله العزيز الديان الذي لا يغفل ولا ينام.
أيام من المفترض أن يجمع فيها المسلم بين خيري الدنيا والآخرة، فهي من أفضل أيام العام، وفيها أجلّ وأسمى اجتماع عرفته البشرية، في صعيد واحد بلباس واحد بكلام واحد بدعاء واحد، ينتظرون الجائزة والمغفرة والرحمة، من ذي الجلال والعزة، ويشكرون الله على ما رزقهم ويكبرونه على نعمه ويثنون عليه.
أيام تظهر فيها النفحات، حيث التعاطف والتسامح والتراحم بين المسلمين؛ صلة الأرحام والإحساس باليتامى والمساكين.. التزاور والتآزر.. التعارف والتآلف.. وبالوقت ذاته أفراح وسرور وبهجة وتهاني وحظور.. أكل وشرب وتوسّع بالمباحات، فهل يأتي العيد بما مضى وفات؟! أم هنالك تجديد وتغيير وصيحات وآهات؟!
هل سنفرح بهذا العيد كما كنا فرحين مسرورين عندما كنا مجتمعين في بلد ومكان واحد؟! وهل سنشعر أننا في عيد وجراح المسلمين لا زالت تنزف والثكالى تأنّ واليتامى يبكون والأحبة يفترقون ويتشرذمون؟!أم هنالك جديد يستنهض هممنا ويُحيي قلوبنا ويجمع شملنا ويعيد مجدنا؟!
كم كنا نأمل أن يأتي علينا هذا العيد، والأمة الإسلامية بحال أفضل، وقضايانا المهمة والمصيرية في تقدم واهتمام، واستلهام العبر والفوائد من تلك المناسبة العظيمة، ومن ثم الانتفاع بما فيها من لمسات وهمسات، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن!
مؤامرات تحاك.. حرمات تستباح.. دماء تسيل.. مقدسات تنتهك.. ضعف بالأمة يزداد.. غثائية مريرة.. تهجير مستمر.. شتات متراكم.. إحساس بالمسؤولية ضعيف.. هموم ثقيلة.. تفرق مقيت.. فراق مميت.. وكأن لسان حالنا ينطبق بما قاله أبو الطيب المتنبي في هجاءه لكافور حاكم مصر:
عيد بأي حال عدت يا عيد *** بما مضى أم لأمر فيك تجديد!؟
بالخانقات من الشكوى تؤرقني *** أم للبشائر في أذني تغريد؟
بالمورقات من الآمال اقطفها *** من الزمان و ما تفنى العناقيد
بخافق لحنه دنيا مفردة *** أم خافق لحنه هم وتسهيد؟
بمهجة لا ينال الضيم حاملها *** أم مهجة دأبها ذل وتأويد؟
بلم شمل مع الخلان يجمعني *** أم بافتراق على عيني معقود؟
قال تلك الأبيات بعد انتقاله من حلب إلى مصر، ومدح كافور حاكم مصر من أجل المال والشهرة، ثم غضب عليه وطرده من مصر، ليقول به هذا الشعر هجاء له، وما أشبه تلك الأبيات بواقعنا وأحوال المسلمين هذه الأيام نسأل الله السلامة والعافية.
ألا نستشعر معنى عظيم من معاني العيد؟ هو التضحية وبذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الدين، ونصرة قضايا المسلمين، وتفريج كرباتهم والتخفيف من معاناتهم وآلامهم، في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وبورما والصومال وأفغانستان وباكستان وبنغلاديش وغيرها من بلاد المسلمين.
إني تذكرت - والذكرى مؤرقة *** مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها *** فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها *** وبات يملكنا شعب ملكناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده *** ونحن كان لنا ماض نسيناه
لم تكن المنزلة العظيمة للشهيد عند العزيز الحميد، إلا لأنه ضحى بأعز وأغلى ما يملك في سبيل الله، فهلا أحيينا عبادة التضحية وطريق الفداء وبذل الجهد والمال والوقت بشتى المجالات؟ لنصرة القضايا المصيرية للأمة، وبالتالي تسجيل موقف عظيم عند العزيز الرحيم، كما سجله من قبل أبونا إبراهيم وإسماعيل عندما } أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {[1].
كيف لنا رسم البسمة على وجوه أطفال يتوسدون الصحراء ويختلط التراب في مأكولاتهم تحت أسقف خيم بالية لا تقيهم الحر ولا البرد؟!! طال بهم الزمان وانقطعت السبل، أم أولئك الذين انقطعت بهم السبل فلم يجدوا إلا أمواج البحار المتلاطمة لتبتلعهم؟!! وأمة الإسلام والعرب لا يحركون ساكنا، يتفرجون كأن الأمر لا يعنيهم، ولسان حالهم:
تَغيّر ذَاكَ العَهْدُ بَعْدي وأَهْله *** وَمنْ ذا عَلى الأيّام لا يَتغَّيرُ
وأَقْفرَ رَسْمُ الدَار إلا بَقية *** لسائِلِها عنْ مثْل حالي تخْبرُ
فلمْ تبْق إلا زَفرة إثْرَ زفرةٍ *** ضُلوعي لها تنقد أوْ تتفَطرُ
وَإلاَّ اشْتِياقٌ لا يَزالُ يَهزني *** فلا غاية تدْنو ولا هُوَ يَفْترُ
من معاني العيد، الفرح والاستبشار والسرور والدعة، لكن السعيد من فرح بفضل الله عليه ورحمته وتسديده لطاعته، وتوفيقه للاستقامة، لا كفرح الأشقياء المغرورين الذي رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، يقول عز وجل مبينا حقيقة السعادة والفرح والسرور } قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {[2]، بالمقابل يبين ربنا سبحانه فرح المغترين إذ يقول } إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ { [3].
فلا تفرح بارتكاب المحرمات وفعل المنكرات سيما في هذه المناسبات، ولا تتكبر أو تتعاظم على خلق الله، فهذا الفرح المذموم الذي يشبه صاحبه قارون بتكبره وعناده وكفره.
فهل أضحت مناسباتنا وأعيادنا عادات وتقاليد؟! أم أننا ابتعدنا عن فحوى وحقيقة نفحات العيد؟! كيف سيكون التجديد وقد انقلبت الموازين وتحول الأحرار إلى أتباع وعبيد؟!! وهل نستسلم للقدر ونرضح للواقع العنيد؟! أم أن لله حكمة في ذلك ووعد ووعيد؟! ثم سنة الاستبدال لتكون المآسي علينا خير شهيد!
إن الأمة الإسلامية أمة مرحومة، جعل الله خيريتها وعافيتها في أولها، فمن أراد تحقيق الرفعة والسناء والتمكين، وتصبح أيامه كلها أعياد وأفراح ومناسبات، فليتشبه بأولئك وليقتفي آثارهم ويستنير بطريقهم:
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
أخيرا نذكّر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يصف فيه حال الأمة في زمن الفتن والابتلاءات والتشرذم والفرقة واختلاط الأوراق، حيث يقول عليه الصلاة والسلام ( إنه لم يكن نبي قبلي، إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن، فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس، الذي يحب أن يؤتى إليه ).[4]
فهل يكون في ظل تلك المعطيات والأمواج المتلاطمات، من الفتن والمدلهمات، تجديد لهذه المناسبات؟!! أم أن الأمر أصبح سيان ورضينا بالواقع ولم نتعظ بما مضى وفات؟!!

23-9-2015

-------------------------------
[1] ( الصافات: 103-107).
[2] ( يونس : 58 ).
[3] ( القصص : 76 ).
[4] صحيح الجامع رقم 2403.