[size=32] تاريخ البناء الأول للكعبة  360519
سبب تسمية بيت الله الحرام بالكعبة
الكعبة معروفة لدى الجميع، وهي المسجد الحرام، وأول بيت وضع في الأرض للعبادة، كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}[آل عمران].
وسميت بهذا الاسم لأنها مربعة الشكل، والتكعيب هو التربيع، والكعبة كل بيت مربع الجوانب. وقيل: سميت بذلك لاستدارتها، والتكعب معناه الاستدارة. وقيل: لأجل علوها وارتفاعها، والكعبة من الكعب، والكعب هو كل شيء علا وارتفع، جاء في "أنيس الفقهاء": "الكعبة: البيت الحرام، يُقال: سميت بذلك لتربيعه، والتربيع جعل الشيء مربَّعًا"

وفي "المفردات" للراغب: "الكعبة: كل بيت على هيئته في التربيع، وبها سميت الكعبة". وفي "النهاية" لابن الأثير: "كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام، وقيل: سميت بها لتكعيبها، أي تربيعها"

وفي "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن: "سميت بذلك لاستدارتها، من التكعُّب وهو الاستدارة، وهذا مما يدل على أن القبلة التي رُوي النهي عنها أي عن استقبالها حال قضاء الحاجة هي الكعبة"

تاريخ بناء الكعبة
فهذا ما سبق مقدمة يسيرة جعلناها لنتعرف من خلالها على الأسباب التي سمي لأجلها بيت الله الحرام بالكعبة، ونأتي الآن إلى موضوعنا الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ وهو تاريخ بناء الكعبة، هل بنيت في زمن آدم عليه السلام، أم في زمن ابنه شيث عليه السلام، أم في زمن الخليل عليه السلام، أم في أزمنة أخرى غير ما ذكرنا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا:
1- فمنهم من يقول: إن الملائكة هم أول من بنوا الكعبة؛ أي قبل آدم عليه السلام، فيكون تاريخ بناء الكعبة سابقًا لزمن آدم عليه السلام؛ جاء في تفسير البغوي: "رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَيْتًا وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ أَنْ يَبْنُوا فِي الْأَرْضِ بَيْتًا عَلَى مِثَالِهِ وَقَدْرِهِ، فبنوه وَاسْمُهُ الضِّرَاحُ، وَأَمَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَرُوِيَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَوْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّهُ آدَمُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ، حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ...

2- ومنهم من قال: إن تاريخ الكعبة يعود إلى زمن آدم عليه السلام؛ فهو أول من بناها، جاء في شفاء الغرام: "وروى الأزرقي بناء آدم عليه السلام للكعبة، واستدل له بخبرين رواهما ابن عباس رضي الله عنهما؛ أحدهما: أنه بناه من خمسة أجبل. والآخر: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت وصلى فيه..."

وقال ابن كثير في تفسيره: "قد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؛ فقيل: الملائكة... وقيل: آدم عليه السلام. رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم...". ثم قال: "وهذا غريب أيضًا"

وقد روى البيهقي في دلائل النبوة حديثًا مرفوعًا بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فيما يخص بناء آدم عليه السلام للكعبة، ثم قال: "تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا"وقال الألباني في السلسة الضعيفة: "منكر"

3- ومنهم مَنْ قال: إن مَنْ بنى الكعبة ولد آدم شيث عليهما السلام، قال السهيلي في "روض الأنف": إن أول من بنى البيت شيث عليه السلام وقد روى الأزرقي في "أخبار مكة" بسنده عن وهب بن منبه أن بني آدم عليه السلام بنوا البيت بالطين والحجارة بعد موت أبيهم

4- ومنهم من قال: إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة المشرفة؛ وذلك بدلالة الكتاب والسنة الصريحة، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}[البقرة]، وفي صحيح البخاري أنه قال الخليل لابنه إسماعيل عليهما السلام: (فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا). وقال الراوي: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ.
[/size]

[size=32]


الراجح في أول من بنى الكعبة
هذه أقوال أربعة في تحديد بداءة تاريخ بناء الكعبة المشرفة، وقد ردَّ بعض المحققين من العلماء الأقوال الثلاثة الأولى؛ لعدم ثبوتها بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الحافظ ابن كثير رحمه الله؛ فقد صرح في تفسيره بأن ذلك من قبيل الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب
ويُفهم من هذا أن القول الصحيح في المسألة هو أن إبراهيم عليه السلام أول من بنى الكعبة المشرفة؛ لكن ينتج عنه إشكال كبير، وهو أنه ثبت في الحديث الصحيح أن الكعبة بُنيت قبل المسجد الأقصى بأربعين سنة، قال أبو ذر رضي الله عنه كما في صحيحي البخاري ومسلم: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ». قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً...». وقد صحَّ أن الذي بنى المسجد الأقصى هو سليمان عليه السلام؛ حيث روى ابن ماجه بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا:..."قال الألباني في صحيح ابن ماجه (1156): (صحيح).

والنبي سليمان في ترتيب الأنبياء قبل الخليل عليهما السلام، وبينهما أكثر من ألف سنة كما بين ذلك كتب التواريخ؛ فهنا إما أن نقول: إن هذه الأحاديث ضعيفة لمخالفتها الواقع الذي بيَّنه القرآن، أو أن نُضَعِّف الثاني منها على أقل الأحوال، أو نقول: إن المراد ببناء إبراهيم عليه السلام هو بناء تجديد، وليس بناء تأسيس، وأما التأسيس للكعبة فقد حصل قبل إبراهيم عليه السلام؛ مما يدل على صحة أحد الأقوال السابقة التي تُبَيِّن أن هناك بناءً للكعبة قبل زمن الخليل عليه السلام.

وأقرب تلك الأقوال الثلاثة: أن آدم عليه السلام هو أول مَنْ قام ببناء الكعبة المشرفة؛ وذلك لوجود عدة روايات في هذا المعنى، منها ما رواه الأزرقي بسنده عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومنها ما رواه البيهقي بسنده في دلائل النبوة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا؛ لكنه ضعيف لتفرُّد ابن لهيعة به كما بيَّن ذلك البيهقي نفسه، ومنها ما رواه البيهقي أيضًا بسنده في السنن الكبرى عن عروة بن الزبير أنه قال: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ؛ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ، وَلَقَدْ حَجَّهُ نُوحٌ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَ مِنَ الْغَرَقِ أَصَابَ الْبَيْتَ مَا أَصَابَ الأَرْضَ، وَكَانَ الْبَيْتُ رَبْوَةً حَمْرَاءَ، فَبَعَثَ اللَّهُ هُودًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَتَشَاغَلَ بِأَمْرِ قَوْمِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَحُجَّهُ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا بَوَّأَهُ اللَّهُ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَجَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ بَعْدَهُ إِلاَّ حَجَّهُ. إن صحَّ هذا الحديث فإنه يدل على وجود الكعبة في زمن آدم عليه السلام؛ إذ إنه أول الأنبياء عليهم السلام.

والإسرائيليات حكمها أنها لا تصدق ولا تكذب، إلَّا إن دلَّ الدليل على كذبها فإنها تُرَدُّ، أو على صدقها فإنها تُصَدَّق، وهنا دلَّ الدليل على أن الكعبة مبنية قبل إبراهيم عليه السلام، ودلَّ على ذلك كما أشرنا سابقًا حديث بناء المسجد الأقصى بعد الكعبة بأربعين سنة، وحديث بناء سليمان عليه السلام للمسجد الأقصى؛ فتكون هذه الإسرائيليات التي تدلُّ على بناء آدم عليه السلام للبيت لها نوع من الصحَّة والصدق.

قال الدكتور عبد الله الطريقي في "تاريخ الكعبة المشرفة" (18) في معرض جوابه عن الإشكال الذي أشرت إليه آنفًا: (فالجواب عن ذلك كما قال أهل العلم: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جدَّدا ما كان أسَّسه غيرهما، وليس إبراهيم أول مَنْ بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فجائز أن يكون بعض ولد آدم عليه السلام قد وضع بيت المقدس، كما رُوي أن آدم عليه السلام أول من بنى الكعبة).

والسياق القرآني أيضًا لا يدلُّ بصراحة على أنَّ إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة بناء تأسيس، وإنما بيَّن أنه رفع قواعد الكعبة مع ابنه إسماعيل عليه السلام، ويحتمل هذا أن تكون تلك القواعد قواعد بيت قد بُنِيَ سابقًا ثم اندثر، أو قواعد بيت جديد؛ لذا قال ابن جرير في تفسيره: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ أَنَّهُ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوَاعِدَ بَيْتٍ كَانَ أَهْبَطَهُ مَعَ آدَمَ، فَجَعَلَهُ مَكَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ الْقُبَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَطَاءٌ مِمَّا أَنْشَأَهُ اللَّهُ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَاقُوتَةً أَوْ دُرَّةً أُهْبِطَا مِنَ السَّمَاءِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ آدَمُ بَنَاهُ ثُمَّ انْهَدَمَ حَتَّى رَفَعَ قَوَاعِدَهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ. وَلَا عِلْمَ عِنْدَنَا بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَا هُوَ إِذْ لَمْ يَكُنْ بِهِ خَبَرٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِمَّا يُدَلُّ عَلَيْهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَقَايِيسِ فَيُمَثَّلُ بِغَيْرِهِ، وَيُسْتَنْبَطُ عِلْمُهُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مَا قُلْنَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ"
[/size]