إنَّ أقسى ما يمكن أن يواجهه المرء من محنٍ وابتلاءاتٍ أن يتَّهم وهو بريءٌ أو يظلم دون سببٍ أو تلقى عليهم التُّهم، ويقع عليه الظُّلم، ويدرك من حوله ببراءته، ثمَّ لا يجد من ينصره ويقف إلى جانبه، ومن تدبِّر القرآن الكريم وجد في قصَّة يوسف -عليه السَّلام- تجسيدًا لهذا الابتلاء وهذه الفتنة وهذه الجريمة في مجتمع أصيب بالتَّرف وفساد القيم وانحطاط الأخلاق، فقد أرادت زوجة العزيز بما تمتلكه من منصبٍ ومركزٍ وجاهٍ أن توقع يوسف -عليه السَّلام- في الفتنة لكنَّ الإيمان يحجز صاحبه عن الحرام قال: {مَعَاذَ اللَّـهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، ولأنَّ المجتمعات المترفة تفسد أخلاقها بسبب انغماس علية القوم بالملذَّات والشَّهوات، عندها ينعدم الحياء ويصبح المنكر معروفًا، بل ويجاهر في فعله والقيام به، قال -تعالى-: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30] بل قالت المرأة في تكبُّرٍ وتحدٍّ: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32]. ففي المرة الأولى كان عرضًا سريعًا خفيفًا، لكنَّه في هذه المرَّة أصبح عرضًا إجباريًّا، إمَّا أن يفعل الفاحشة أوِ السِّجن، ولكنَّه فضَّل السِّجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] أنَّه أمرٌ عجيبٌ عندما يسجن المرء دون سببٍ ودون محاكمةٍ ودون دفاعٍ ولا يوجد دليل اتهامٍ واحدٍ ومع ثبوت أدلَّة البراءة للجميع {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30].
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم***فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا
أنَّه الظُّلم والبغي في أبشع صوره والأغرب من هذا والأعجب أنَّ المجتمع الَّذي وقع فيه هذا الظُّلم يعرف الظَّالم من المظلوم، ويعرف الحقيقة كاملةً، ومع ذلك يسكت عن قول الحقِّ وعنِ الدِّفاع عن المظلوم، بل ويجامل الظَّالم والله -سبحانه وتعالى- قد حرَّم الظُّلم وجعل عاقبته وخيمةً على الأفراد والمجتمعات والدُّول قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴿13﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13-14].
إنَّ انتشار الظُّلم اليوم مؤذنٌ بخراب الحال عند البشر، فهناك الظُّلم والاستبداد والقهر السِّياسي، والظُّلم في الأموال، والظُّلم في الأعراض، والظُّلم الاجتماعي والأسري، أنواع من الظُّلم تقع بين النَّاس لبعضهم اليوم، وإن انتشار هذا الاستبداد والتَّسلُّط من القوي على الضَّعيف، ومن القادر على العاجز، وإنَّ سكوت النَّاس الَّذين يستطيعون أن يصنعوا شيئًا، إنَّ سكوتهم عن رفع هذه المظالم عنِ المظلومين وإنَّ سكوتك عن نصرة المظلوم بأن تراه يُظلم وأنَّك تعرف أنَّك تستطيع أن تقف معه في مظلمته، أن تقف معه بمالك، أن تقف معه بجاهك، أن تقف معه ولو بلسانك، أن تقف معه بالشَّهادة معه عند قاضٍ أو عند حاكمٍ، أن تقف في كلِّ موطنٍ تستطيع أن تنصره به، فأنت مطالب بذلك {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
وألقي يوسف -عليه السَّلام- في السِّجن دون ذنبٍ ودون محاكمةٍ ودون جريمةٍ ارتكبها قال -تعالى-: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42].
إنَّ السَّجين الَّذي يعرف متى سيخرج، في أي يوم وفي أي شهر لا يعاني من الضِّيق مثل ذلك الَّذي لا يعرف متى سيخرج، فكم من مسجونٍ اليوم نسي القاضي قضيته أو من أمر بحبسه فلم يعد يذكره أحد يرفع شكواه إلى الله، وكم من مظلومٍ سلبت حريَّته وأهينت كرامته دون سببٍ أو جنايةٍ، واسمعوا إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو يؤسِّس المجتمع المسلم على قواعد الرَّحمة والعدل حتَّى في جانب الحيوان والتَّعامل معه فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «دخلت امرأة النَّار من جراء (أي من أجل) هرَّةٍ لها أو هرٍ ربطتها فلا هي أطعمتها . ولا هي أرسلتها ترمرم (أي تتناول ذلك بشفتيها) من خشاش الأرض حتَّى ماتت هزلًا» [صحيح مسلم 2619]، ومرَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على جملٍ مربوطٍ فتأثَّر وتألَّم فعن سهل بن الحنظلة قال: «مرَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ببعيرٍ قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتَّقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحةً وكلوها صالحة» [رواه أبو داود 2548 وصحَّحه الألباني]، فكيف لو علم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ هناك في بعض بلاد المسلمين من سجنوا و غيبوا في السُّجون والمعتقلات دون أن يكون هناك ذنبٌ لأحدهم إلا أنَّه حاول أن يبدي رأيه في مسألة تحتمل النِّقاش والأخذ والرَّدَّ أو صدع بكلمة حقٍّ أو طالب بحقوقه الَّتي كفلتها له الشَّرائع والقوانين ودساتير الأرض وربما أخذ من باب الشُّبهة أو التَّشابه في الأسماء والصُّور أو بجريرة آباءه وإخوانه وأسلافه من عشرات السِّنين وغير ذلك، وقد يؤخذ أو يعتقل ليس يومًا أو شهرًا أو سنةً، بل عشرين وثلاثين عامًا دون سببٍ بل بعضهم يخرج من سجنه إلى المقابر، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، أي ظلمٍ هذا وأي تعدٍّ هذا من الإنسان على أخيه الإنسان، فإيَّاك أن تكون ظالمًا أو سبباً في ظلم أحدٍ من النَّاس فيكون الله -سبحانه وتعالى- لك بالمرصاد.