الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
إن سورة يوسف نستطيع أن نقول: إنها سورة الرؤى، فقد ورد في القرآن ذكر سبع رؤى في ستة مواضع؛ ثلاثة مواضع اشتملت على أربعة رؤى جاءت في سورة يوسف، وهي قول الله _تعالى_: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إني رأيت"(يوسف: من الآية4)، وذكر رؤياه.
ثم الموضع الثاني، وفيه رؤيتي صاحبي السجن الذين ذكرا له ما رأيا، وكل واحد منهم رأى رؤيا غير التي رآها صاحبه.
ثم جاءت الرؤيا الرابعة في الموضع الثالث من السورة، وهي رؤيا الملك وتلك رؤية عظيمة جداً، فهذه ثلاثة مواضع اشتملت على أربعة رؤى كلها في سورة يوسف.

وفي بقية القرآن نجد في سورة الأنفال ذكر الرؤيا في قول الله _تعالى_: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ"(لأنفال: من الآية43).

ثم في الصافات في قصة إبراهيم مع إسماعيل _عليهما السلام_ قال الله _عز وجل_: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ "(الصافات: من الآية102).

والموضع السادس والأخير جاءت فيه الرؤيا السابعة، وهي رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ التي أخبر الله _جل وعز_ عنها في سورة الفتح، فقال _سبحانه_: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"(الفتح: من الآية27).

هذه سبعة رؤى في القرآن، وقد يتساءل متسائل فيقول: أين رؤيا سورة الإسراء التي قال الله _جل وعلا فيها_: "وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ"(الاسراء: من الآية60)؟ والجواب: إن هذه الرؤيا رؤيا عين، وليست رؤية منامية على الصحيح، وكذلك فسرها ابن عباس _رضي الله تعالى عنه_ كما في البخاري.
أما ما ذكره بعض المفسرين من أنها رؤيا في بني أمية فضعيف لا يثبت، بل ربما كان من أكاذيب الرافضة وما أدخلوه في التفسير من أخبار واهيات، أو ممن تأثر بهم وأخذ عنهم.

والناس في موضوع الرؤى بين إفراط وتفريط، فهناك من بالغ في الرؤى فبنى حياته عليها، وأخذ تشريعه منها، وهناك من قصر فيها فلم يلتفت إليها، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وما عليه المسلمون المؤمنون من أهل السنة والجماعة هو المنهج الوسط، المنهج الحق، في موضوع الرؤى.

فالرؤى في المنام حق، ثابتة بالكتاب والسنة، يؤيدها النقل والعقل، وتؤمن بها النفوس السوية، ولم ينكر أن الرؤيا الصالحة تكون من الله إلا الفلاسفة ومن نحا نحوهم في هذا العصر من بعض من يشتغلون بعلم النفس، الذين يجعلون الرؤى أضغاث أحلام، فهؤلاء يفسرون الرؤى بنوع من أنواعها، وينكرون الحق فيها. ومثل أولاء ومن أخذ بقولهم لا يلتفت إليهم ؛ لأن الرؤيا الصالحة وأثرها ثابتة بالكتاب والسنة، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثيراً ما يسأل أصحابه من رأى منكم رؤيا؟ وقد توارثته الأجيال قديماً وحديثاً، فهي ثابتة يؤيدها العقل والنقل في القرآن كما مر وفي السنة التي تكاد أن تصل إلى حد التواتر المعنوي لكثرتها وتنوعها، ومن ذلك حديث أبي هريرة _رضي الله تعالى عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحذر من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها أحداً" رواه مسلم في صحيحه، وهذا الحديث أصل عظيم في موضوع الرؤيا، إثباتها، وأنواعها، وأقسامها، وكيف نتعامل معها.
وعن عبادة بن الصامت _رضي الله تعالى عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". وردت في بعض الأحاديث خمس وأربعين، وفي بعض الأحاديث ست وأربعين جزء من النبوة، بل جاءت الأحاديث بخمسة عشر لفظاً مختلفاً، وقد ذكر أهل العلم تفاسير جامعة مبينة لذلك،فبعضهم حملها على اختلاف الرائي، فبعضهم تكون له خمسة وأربعين جزءاً من النبوة، وبعضهم ست وأربعين، وبعضهم أقل، وبعضهم أكثر، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أقرب، ومنهم من قال النبوة يتفاضل فيها الأنبياء وليست مستوى واحد كما قال الله _عز وجل_: "ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض" وفي المسألة أقوال أخرى يرجع إليها في مظانها من كتب أهل العلم.

أما المنهج الشرعي في التعامل مع الرؤى، فيعتمد على الرؤيا، وهي ثلاثة أنواع كما مر في حديث أبي هريرة:
فإن كانت رؤيا صالحة فلا يحدث بها إلا من يحب، ولذلك أسباب، منها: منع باب التحاسد وما ينتج عنه من تدابر، ولهذا قال يعقوب لابنه _عليهما السلام_: " لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً "(يوسف: من الآية5)، فلما لاحظ يعقوب من تصرفات بنيه ما استشرف منه عدم رضاهم عن أخيهم أوصاه بذلك، فإذا لم تأمن جانب قريب فلا تقصص رؤياك عليه حتى وإن كان ممن تحب.

ثانياً: إن كانت الرؤيا من قبيل حديث النفس، ومن علامتها أنها تكون في العادة استمرار لما كان يفكر فيه المرء في يقظته، ومثل هذه فليعرض عنها، وأكثر ما يرى الناس من حديث النفس، يهتم أحدهم بشراء سيارة، فيرى السيارة، يهتم بالزواج فيرى ذلك، يهتم بالامتحان فيرى الأسئلة... وهكذا.
النوع الثالث: أن يرى ما يكره، وهي التي من تهاويل الشيطان، فعلى من رآها أن يعمل بما يلي:
أولاً: يتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان.
ثانياً: يبصق عن يساره ثلاثاً.
ثالثاً: ينقلب على جنبه الآخر.
رابعاً: يقوم فيتوضأ ثم يصلي ما شاء الله.
خامساً: لا يحدث بها أحداً.
ومن لم يتمكن من عمل هذه الخمس، فليعمل بعضها، كأن ينقلب على جنبه، وأن يستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، والمهم ألا تحدث بها أحداً، فإنه يخشى إذا حدثت بها أحداً أن يكون لها آثار، فقد ورد أن الرؤيا على جناح طائر فإذا عبرت وقعت.

فالأفضل كما بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ ألا تحدث بها أحداً مهما كان، وإذا عملت هذه الأشياء الخمسة فإنها لا تضرك _بإذن الله_.
وكان من روى هذا الحديث، يقول: كنت أرى الرؤيا فتمرضني، أي: تثقل علي، فلما بلغه هذا الحديث وتعامل معها ارتاح وخف عنه ما يجد.

ثم إن من رأى رؤيا أولت له فعليه أن يعلم بأنها قد تصيب وقد تخيب، والجزم بتحقق الرؤيا أو صحة تعبيرها والتعلق به خطأ كبير وخلل وقع فيه بعض الناس.
فبعض الناس يتصور أنه إذا رأى رؤيا ثم عبرت له فوقوعها حق لا مرية فيه! وهذا خطأ للتقسيم السابق، فالرؤيا قد تكون رؤيا صالحة، وقد تكون حديث نفس، وقد تكون من وسواس الشيطان، كما قد ترد احتمالات أخرى حتى على الرؤيا التي ظاهرها الخير، ومنها:
أولاً : قد تكون الرؤيا كذب، وهذا باب خطير ولج فيه وللأسف بعض الناس، فوجب ألا يطمئن لكل رؤيا تذكر.
ثانياً : احتمال عدم دقة رواية من رآها دون تعمد للكذب فيزيد أو ينقص، والمعبر يعبر حسب ما روي له، وهنا قد يقع الخطأ، وإن كان المعبر حاذقاً.
ثالثاً : قد يكون ما رؤي من حديث النفس أو وسواس الشيطان فاختلط الأمر على الرائي.
رابعاً : قد تكون الرؤيا صالحة، والرائي صادق قد قصها على المعبر بدقة، ولكن المعبر ليس من أهل الحذق في التعبير أو ليس من أهل التعبير؟ فبعضنا يعرض رؤاه على معبر وغير معبر، كما يسأل الناس من هو أهل للفتوى ومن ليس من أهلها.

خامساً: قد يكون المعبر من المعبرين الحذاق، ولكنه أخطأ في تعبير الرؤيا، فليس كل معبر حاذق يصيب في كل تعبير، والدليل على ذلك أن أبا بكر _رضي الله تعالى عنه_، عندما عبر الرؤيا وسأل النبي _صلى الله عليه وسلم_، قال له النبي _صلى الله عليه وسلم_: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فإذا كان أبو بكر _رضي الله عنه_ ومن هو في علمه وفضله ومكانته وتعبيره للرؤى، يقول له النبي _صلى الله عليه وسلم_: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً"، فغيره من باب أولى وإن كان من كبار المعبرين، فليس كل ما يقوله المعبر صحيحاً على إطلاقه، فما بالك إن لم يكن المسؤول من أهل التعبير!
سادساً: قد يعبر المعبر، ويكون تعبيره صحيحاً، ولكن يخطئ في تنزيلها على ما لم تكن فيه، وهذا الأمر وقع فيه بعض الصحابة كما في رؤية الفتح، وذلك لما رأى النبي _صلى الله عليه وسلم_ الرؤيا التي قصها الله _تعالى_ كما في قوله _عز وجل_: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين"، فلما ذهبوا إلى الحديبية ورجعوا، قالوا: ألم تقل لنا إننا سندخل البيت؟ فأنزلوها في غير موضعها، فنزل قوله _تعالى_: "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" (الفتح:27)، فقد تنزل الرؤيا وهي حق، وتعبيرها صحيح على غير من عبرت له أو في غير موضعها.

وخلاصة الأمر: إن الواجب علينا ألا نستعجل في موضوع الرؤى وفي تعبيرها، فإذا رأيت رؤيا، فانظر هل هي صالحة أو حديث نفس أو من الشيطان، ثم ابحث عمن يعبرها لك إن كانت صالحة، فإذا عبرها فلا تجزم بتحققها مع رجائك من تحقق البشرى بخير يجريه الله لك، ولا تستعجل فقد يأتي تأويل رؤياك بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد عشرين، ولهذا قال يوسف _عليه السلام_ بعد سنوات طوال ذكر بعض المفسرين أنها أربعين سنة: الآن تحققت الرؤيا، قال الله _عز وجل_ على لسانه: "يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ"(يوسف: من الآية100). يعني رؤياه التي رآها أول القصة، وذلك بعدما خروا له سجداً ورفع أبويه على العرش.
فلنلاحظ هذه الأمور في رؤانا،ولنتثبت من الرؤيا، ومن دقة المعبر، ومن تنزيلها على واقعها حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، ولنأمل خيراً، فما أضيق العمر لولا فسحة الأمل.