كيف يتسلل الإسلام إلى أغوار النفس البشرية و يسكنها خاصة إذا جاء اعتناقه عبر ثقافة مغايرة؟
بحثت عن إجابة لهذا السؤال عند جارودي و مراد هوفمان و غيرهما, و لكني في رحاب مكة وجدت بعضا مما كنت أبحث عنه.

في موسم الحج عام 1999 تقابلت مع عبد الله الذي كان اسمه فيما مضى" جون", كان أمريكيا مختلفا في الشكل و الطباع, ضئيل الجسم إلى حد ما, مهذبا لدرجة الوداعة, لم يكن يجيد العربية, و لكنه كان يحفظ الشعائر و المناسك عن ظهر قلب, و يحمل نسخة مترجمة إلى الانجليزية من القرآن الكريم يقرأ بها قبل و بعد كل صلاة.
سألته كيف اهتدى للإسلام, و كنت أنتظر منه جوابا طويلا و معقدا, حول الشك و التوق الروحي و معاناة البحث عن اليقين, و لكنه قال ببساطة: " إنها زوجتي, لقد أحببت فتاة مصرية من الاسكندرية, قابلتها في نيوجرسي, و عن طريقها عرفت الاسلام".
الحق أقول لكم لقد خاب أملي, فالإجابة كانت صغيرة بالنسبة لتحول كبير بهذا الحجم, و أخذت أتساءل عن سر تلك الاسكندرانية الفاتنة التي كانت من الاصرار بحيث جذبته إلى عالمها بدلا من أن تذوب في عالمه.


كان عبد الله الذي كان "جون" فيما مضى يقوم بكل المناسك في حالة من التبتل, شاهدته عند آبار علي و هو يسبغ الوضوء, و يحكم ثياب الاحرام, و يستغرق في الصلاة غائبا عن كل ما حوله, ثم و هو يسير بين المشاعر ضارعا و باكيا, كأنه يريد أن يعوض كل الأيام التي لم يبك فيها أو يتضرع.
كانت عواطف القلب و تجليات الروح قد امتزجتامعا على صعيد واحد, أحسست أنه بشكل أو بآخر يخوض حالة من التسامي, كان من الصعب علينا _ نحن الأقدم و الأكثر أصالة_ أن نصل إليها, ففي لحظة نادرة استطاع عبد الله أن يخضع العقل لنداء القلب, و أن يفتح آفاق روحه لزاد جديد, تحول فيه الحب إلى عقيدة, و نفذ فيه إلى أغوار العقيدة مزودا بسلاح الحب.
في هذه المرحلة نفسها كان معنا فريق من التلفزيون الياباني, كانوا قادمين بكاميراتهم و معداتهم لتصوير كل المناسك, و كان المصور الأول في الفريق يابانيا اعتنق الإسلام , و عندما انتهينا من يوم عرفة بكل ما فيه من جلال و رهبة, و سار الركب في سكينة إلى المزدلفة لنقضي جانبا من الليل, فوجئنا جميعا بالمصور الياباني و قد خلع ملابس الاحرام و ارتدى ثيابه العادية, سألناه في فزع عما حدث, و لماذا يفسد حجته قبل أن تكتمل؟
قال في إيجاز إن الشيخ الذي اعتنق على يديه الاسلام في اليابان قد قال له:" الحج عرفة" و هو حديث مؤكد و صريح, و ها قد انتهى يوم عرفة لذا فقد انتهى الحج.
عبثا حاول الجميع اقناعه, استخدمنا معه كل اللغات العربية و الانكليزية و حركات الايماء و الاشارات, فالطقوس لم تكتمل بعد, و الاحرام مستمر حتى رمي الجمرات و حلق الشعر, و لكنه أصم أدذنيه دوننا.
حيرني ذلك الياباني المسلم, أربكني تشدده في موقف و في يوم لا تشدد فيه , يوم منذور للاستسلام للذي خلق الروح , كيف يمكنه الايمان المطلق بمصدر أوحد للعلم و المعرفة, و لماذا الاصرار على أن يأخذ بناصية دين ضخم و عريق كالاسلام اعتمادا على شخص واحد .
و بدون أن أدري وجدت نفسي أعقد نوعا من المقارنة بين الاثنين, عبد الله المحب, و الياباني المتصلب , لقد دخل الاسلام قلب عبد الله هينا و محبا حتى تشبعت به روحه, أما الياباني فقد دخل إليه الاسلام في أوامر صارمة لا تحتمل النقاش .
اكتشفت أن فهم الاسلام في حاجة إلى الكثير من المحبة, فهي تصنع طرقها و مسالكها الخاصة من القلب إلى العقل, و من العقل إلى الروح في دورة لا تنتهي.