حينما تجول بالطرف في ربوع القران منتقلاً بين رياضه الناضرة و أزهاره اليانعة تجد نفسك أسيراً لروعة ذلك الفن القصصي {نَحنُ نَقصُ عليكَ أَحَسنَ القصَص}
و القران قبل كل شيء كتاب عقيدة و دعوة، لكنه أيضاً حوى جُل الفنون بين دفتيه أقطف منه زهرة هي حوار يوسف مع الفتيان في السجن.. ولست في هذا المقام بمفسر يترجم خفيّ القرآن ولكني شغوف بالأدب فتنه فن الحوار في تلك القصة.
و يبدأ العرض القرآني بهذا النسيج المنظوم {ودَخَلَ مَعَهُ السِّجنَ فَتَيانِ}. في قمة إيجازه فلم يقل إن يوسف دخل السجن قبلهما أو بعدهما و لا حتى معهما فما يعني ذلك في القصة شيئاً.. ثم يعرض كل منهما رؤيا {قاَل أَحَدُهُما إِني أَرَاني أَعصِر خَمراً و قَال الأخر إني أراني أَحمِلُ فوقَ رأَسي خبزاً تأكل الطير منهُ}. يطلبان بعدها التأويل { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } و يتبعان ذلك بآيات التبجيل و التقدير { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } حيث تتجلى فيها روعة الحديث عند الطلب و الاستفتاء.. ثم يأتي الجواب النبوي { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا }. ولم يقل سأنبئكما بتأويله بعد قليل كي لا تعلق أذهانهما بهذا القليل متى ينتهي، بل واعدهما موعد الطعام المعروف الثابت عادة، فيكون بالهما خيالاً لأي أمر يريده فيهما.. كما حرص أيضاً على أن يبعد عنهما أي شك في خطأ تأويل رؤياهما،وذلك لأن ما سيقوله هو من علم الله لا من عند نفسه { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }.
ثم يستمر بعد ذلك في تعريفها بنفسه و بمنهجه في الحياة، فتزداد عظمته في نفسيهما و صدقه في ذواتهما، فهما سيؤمنان بالفكرة حينما يؤمنان بالشخص الذي تتمثل فيه { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } . ثم تبلغ العظمة و التسليم وأوجهما حينما يعلمان أنه من نسل الأنبياء و على دربهم يسير { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }. ثم يبدأ في دعوتهما، فيلمح قبل أن يصرح { ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }. فهذا الفضل ليس لنا آل إبراهيم وحدنا بل هو للناس جميعاً – يعرّض بهما -، ولكن أكثرهم لا يشكرون بالإتباع و الانصياع لأوامر الله، ولاحظ تلطّفه بقوله {أكثر الناس}. و لم يقل الناس كي يقرب قلبيهما إليه، كما انه لم يقل(الكافرون) كي لا يصابا بالصدمة و هما مازالا في بداية الطريق إلى الهداية.
ثم يخاطبهما بصحبته لهما، فكل غريب للغريب نسيب { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ }. فما قال أيها الفتيان أو أيها القوم أو استخدم ضمير المخاطب، كل ذلك تقريب للمودة. ثم عرج بهما يرشدها – لا يجادلهما – إلى صميم العقيدة و التي هي مدار الإيمان { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }، فوصف آلهتهما بالتعدد و التفرق المؤدي إلى الضعف، و قابلها بأسماء الله المطابقة للحال { الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }. ثم يزداد وقع الحوار و شدته بعد أن ملك ألبابهما و قلوبهما{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً }. جوفاء لا حقيقة لها كأسماء الواحد القهار { سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ }. جدلاً بدون علم أو دراية أو سلطان. و تخفيفاً لحدة لفظ { َآَبَاؤُكُمْ }. أتبعه يقوله {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان}. ليرقى بهما إلى عظمة الله الذي هو أعظم من آبائهما. ثم يقررها حقيقة { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } . سائراً بهما إلى نهاية المطاف الذي من أجله حاورهما { أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }. فكل ما سواه فهو أعوج لا يصلح منهاجاً للحياة { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }. فلقد علمتما فاتبعا ما جئتكما به.
ثم يعود ثانية بعد أن أدّى رسالته الدعوية إلى أسلوبه اللطيف { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ }. كي ينتهي الحوار وهما مؤمنان بفكرته معظمان له، وهذا فن عظيم من فنون الحوار.
ثم يعود في النهاية إلى ما أشتغل بالهما في رؤياهما، فيبلغ في نفسيهما قمة التقدير{ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ }.و لم يصرح لأحدهما انه ناج و للأخر انه مصلوب تأدباً منه في الحديث، مع أن ذلك معلوم من الرؤيا.
ثم يختم حديثه معهما {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان}. فهذا أمر يسير سهل انقضاؤه، لكن أمر العقيدة لا يمكن أن ينقضي.
و القران قبل كل شيء كتاب عقيدة و دعوة، لكنه أيضاً حوى جُل الفنون بين دفتيه أقطف منه زهرة هي حوار يوسف مع الفتيان في السجن.. ولست في هذا المقام بمفسر يترجم خفيّ القرآن ولكني شغوف بالأدب فتنه فن الحوار في تلك القصة.
و يبدأ العرض القرآني بهذا النسيج المنظوم {ودَخَلَ مَعَهُ السِّجنَ فَتَيانِ}. في قمة إيجازه فلم يقل إن يوسف دخل السجن قبلهما أو بعدهما و لا حتى معهما فما يعني ذلك في القصة شيئاً.. ثم يعرض كل منهما رؤيا {قاَل أَحَدُهُما إِني أَرَاني أَعصِر خَمراً و قَال الأخر إني أراني أَحمِلُ فوقَ رأَسي خبزاً تأكل الطير منهُ}. يطلبان بعدها التأويل { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } و يتبعان ذلك بآيات التبجيل و التقدير { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } حيث تتجلى فيها روعة الحديث عند الطلب و الاستفتاء.. ثم يأتي الجواب النبوي { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا }. ولم يقل سأنبئكما بتأويله بعد قليل كي لا تعلق أذهانهما بهذا القليل متى ينتهي، بل واعدهما موعد الطعام المعروف الثابت عادة، فيكون بالهما خيالاً لأي أمر يريده فيهما.. كما حرص أيضاً على أن يبعد عنهما أي شك في خطأ تأويل رؤياهما،وذلك لأن ما سيقوله هو من علم الله لا من عند نفسه { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }.
ثم يستمر بعد ذلك في تعريفها بنفسه و بمنهجه في الحياة، فتزداد عظمته في نفسيهما و صدقه في ذواتهما، فهما سيؤمنان بالفكرة حينما يؤمنان بالشخص الذي تتمثل فيه { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } . ثم تبلغ العظمة و التسليم وأوجهما حينما يعلمان أنه من نسل الأنبياء و على دربهم يسير { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ }. ثم يبدأ في دعوتهما، فيلمح قبل أن يصرح { ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }. فهذا الفضل ليس لنا آل إبراهيم وحدنا بل هو للناس جميعاً – يعرّض بهما -، ولكن أكثرهم لا يشكرون بالإتباع و الانصياع لأوامر الله، ولاحظ تلطّفه بقوله {أكثر الناس}. و لم يقل الناس كي يقرب قلبيهما إليه، كما انه لم يقل(الكافرون) كي لا يصابا بالصدمة و هما مازالا في بداية الطريق إلى الهداية.
ثم يخاطبهما بصحبته لهما، فكل غريب للغريب نسيب { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ }. فما قال أيها الفتيان أو أيها القوم أو استخدم ضمير المخاطب، كل ذلك تقريب للمودة. ثم عرج بهما يرشدها – لا يجادلهما – إلى صميم العقيدة و التي هي مدار الإيمان { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }، فوصف آلهتهما بالتعدد و التفرق المؤدي إلى الضعف، و قابلها بأسماء الله المطابقة للحال { الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }. ثم يزداد وقع الحوار و شدته بعد أن ملك ألبابهما و قلوبهما{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً }. جوفاء لا حقيقة لها كأسماء الواحد القهار { سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ }. جدلاً بدون علم أو دراية أو سلطان. و تخفيفاً لحدة لفظ { َآَبَاؤُكُمْ }. أتبعه يقوله {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان}. ليرقى بهما إلى عظمة الله الذي هو أعظم من آبائهما. ثم يقررها حقيقة { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } . سائراً بهما إلى نهاية المطاف الذي من أجله حاورهما { أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }. فكل ما سواه فهو أعوج لا يصلح منهاجاً للحياة { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }. فلقد علمتما فاتبعا ما جئتكما به.
ثم يعود ثانية بعد أن أدّى رسالته الدعوية إلى أسلوبه اللطيف { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ }. كي ينتهي الحوار وهما مؤمنان بفكرته معظمان له، وهذا فن عظيم من فنون الحوار.
ثم يعود في النهاية إلى ما أشتغل بالهما في رؤياهما، فيبلغ في نفسيهما قمة التقدير{ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ }.و لم يصرح لأحدهما انه ناج و للأخر انه مصلوب تأدباً منه في الحديث، مع أن ذلك معلوم من الرؤيا.
ثم يختم حديثه معهما {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان}. فهذا أمر يسير سهل انقضاؤه، لكن أمر العقيدة لا يمكن أن ينقضي.